برهنت ساكنة الحسيمة عن نضج كبير، بعدما عبرت عن رفضها للطريقة المأساوية التي قضى بها المرحوم محسن فكري نحبه في شاحنة للأزبال.. وذلك من خلال رزانتها وتعقلها، وضبطها للنفس وتقديمها الدروس لبلدان الجوار في ما يمكن تسميته بـ"فن الاحتجاج".. إذ مباشرة بعدما أدرك "الحسيميون" أن رسائلهم وصلت إلى المسؤولين، عاد أبناؤهم إلى حياتهم العادية، دون أن ينسوا دم المرحوم الذي أخرج آلاف المغاربة إلى الساحات والشوارع، طلبا للقصاص..
لقد كانت قضية المرحوم فكري، بمثابة محطة أساسية، للتنبيه بألا مجال للرجوع إلى الوراء، وألا مبرر لتكرار مثل هذا الحادث بعد محطة دستور 2011، وأنه حان الوقت للقطع نهائيا مع بعض تجليات "الحكرة" التي تطفو بين حين وآخر.
وصلت الرسالة سريعا، فُتح تحقيق في الوفاة.. تلقت العائلة وعود من وزير الداخلية نفسه بإجراء تحقيق مفصل حول النازلة، بضمانات من ملك البلاد الذي بعد أن قدم تعازيه لعائلة الفقيد، أمر بإجراء بحث دقيق ومعمق ومتابعة كل من ثبتت مسؤوليته في هذا الحادث، مع التطبيق الصارم للقانون في حق الجميع، ليكونوا عبرة لكل من يخل أو يقصر خلال القيام بمهامه ومسؤولياته.. لقد أخذ التحقيق مجراه الطبيعي، وسينال المسؤولين عن الحادث الجزاء.
اليوم، وبعد أن قدم "الحسيميون" وكل المتضامنين مع عائلة فكري، درسا في التعبير عن الغضب سلميا، ثبت أن عبارة "طحن مو" التي أججت الفعل الاحتجاجي، كانت مجرد شرارة فايسبوكية، انطلقت من كذبة صادرة عن الذين "في قلوبهم زيغ"، من أجل إشعال الفتنة في البلاد.. ليقين أصحاب العبارة أن "طحن مو" قد تكون مدخلا لـ"طحن الوطن".. لكن هؤلاء، أخطأوا الحساب حينما حاولوا تهييء الظروف التي عصفت بتونس، بصناعة بوعزيزي جديد في الحسيمة.. أخطأوا حينما اعتقدوا أن دم المرحوم محسن فكري، يمكن الركوب عليه لتحويل المغرب إلى بؤرة غير مستقرة.. أخطأوا ، حينما افتعلوا عبارة ذات حمولة عنيفة، لزرع أول بذرة للفتنة، قبل أن تثبت الأيام أنها عبارة مختلقة، نفخت فيها جهات من الداخل والخارج، حتى يفقد المغرب، ميزة الأمن والاستقرار.. لقد عاق "الحسيميون" منذ أول يوم احتجوا فيه على وفاة المرحوم فكري، أن هناك من يحاول أكل الثوم بفمهم، فخرجوا للتظاهر من أجل القصاص، دون أن يكون مطالبهم اجتماعية أو سياسية.. فقط، محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن الفاجعة.
إن المغرب، مغرب وكفى.. "ممنوش جوج".. ليس هو الجزائر التي تلعب بشعب ورئيس في مسرحية قد تمتد إلى خمس فصول أو خمس ولايات.. وليس هو تونس التي عاشت "حكرة مزمنة" بعد أن هرم التونسيون من أجل لحظة انهيار نظام استبدادي كانت تحكمه عائلة الطرابلسي.. وليس هو ليبيا التي عانت من "آفة الأحزاب" والكتاب الأخضر "المقدس"، وليس هو مصر أو اليمن أو سوريا، التي عاش فيها الرؤساء نشوة السلطة بمعزل عن شعوبهم.. إنه المغرب، الذي يمكن أن يخرج فيه الشعب للتظاهر بشكل سلمي من أجل حصد المكاسب للعيش الكريم وتحقيق العدالة الاجتماعية، دون تفريط في ثوابت البلاد.. إنهم المغاربة الذين كسبوا بـ"السلمية" ما لم تكسبه شعوب الاضطراب السياسي بالمدافع والكلاشنيكوف.. إنه مغرب الاستثناء، العصي على "الطحن".. فلينام الجبناء وطوبى للعقلاء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق